Featured Video

بقلم الكاتبة أسماء شاكر : مرحباً. شكراً. وداعاً



مرحباً. شكراً. وداعاً

 أسماء شاكر


كان يكفي أن أشمّ طرفَ رائحة عطرها النفّاذة لأدركَ أنها في إحدى الطوابق، فأخطِفُ الرسائلَ من البريد وأنزوي في المصعد بسرعة وأغلق باب الشقةِ بحذر، قبل أن تمسك بي في الممّر وتبدأ رطنها السريع،
دون أن أتمكّن من قطعِ وصلتها الكلامية لأعتذر منها بلباقة وأخبرها أنني لا أفهم ماذا تقول، فأهزّ رأسي وأبتسم ببلاهة.
ربما لم تكن تلك العجوز الثرثارة التي تصفّفُ شعرها الأبيض القصير بعصريّة، وتضع قليلاً من الأزرق الشاحب على جفنيها المجعّدين وشيئاً من الورديّ الخفيف فوق شفتيها، تحتاجُ لأن أبادلها الحديث، فقد كانت واثقة ومرحة، ترشّ فوق ملابسها الرياضيَة نصف زجاجة من عطر لاذع وغريب - يشبه رائحة الزيوت العطرية التى يبيعها ذوي اللحي والجلابيب البيضاء أمام المساجد بإيمان - ويكفيها أن ترى أثناءَ تِجوالها أيّ جَارٍ يُنزِّه ُ كلبه أو يُشغّل سيارته أو يُخاصرُ حبيبته في مساءاتِ يوم الأحد، لتلقي تحيّتها وتبدأ الكلام ببحّةٍ خشِنة عالقة فى صوتها وبضحكٍ ساخر متقطّع.
أمّا أنا فلم أكن أملكُ سوي ثلاث كلمات يمكنني أن أحكيها لها بالنرويجية: «مرحباً» عندما أراها مصادفة في المبنى السَكنيّ، و«شكراً» حين تنتظرني بالمصعد كي لا يُغلَقَ دونى، و«وداعاً» حينما تصِلُ إلى شقتها في الطابِق السُفلي، فيتحّركُ المصعد بي، وأسمعُ خرخشة المفاتيحِ وصوتها يبتعِدان، وهي لا تزال تكملُ الكلام وحدها.
فى ذلك الصباح فقط، لم يتسنّ لي أنْ أقول لها بمرح: هَاي، فقبلَ أن أخرُج َمن باب شقّتي لأرمي كيس القمامة، نسيتُ أنْ أغلِقَ مفتاح جهاز الإنذار فى أمَّان الباب، فملأَ صوته المزعج الرِوَاق.
عُدْتُ مسافة خطوتين لأخمِدَ الصوت سريعاً، لكنني فوجئتُ بها تقفُ أمامي بوجهٍ مشدوه وعينين خائفتين، سألتني إنْ كنتُ بخير وهي تُمسِكُ بكتفي، تفحّصتني وألقتْ نظرة من باب الشقة، تنهدّتْ وهدأت قليلاً، ثمّ صارت تتكلم ويداها تترجم ما تقوله بإشاراتٍ متقَنة: تقلّدُ الحريق بأعوادِ ثقاب وهمية بكفيّها، وتشيرُ إلى جهاز الإنذار وهي ترفعُ ذراعيها إلى الأعلى، كأنها تصنع ناراً، لقد ظنّتْ ذلك الصوت هو إنذار الحريق. كنتُ أراقبها بدهشة وارتباك، كانتْ تعرِفُ طوال الوقت أنني لا أفهمها!
لاحقاً، سأعرفُ أن تلك المرأة التى تعيشُ وحدها منذ سنوات ٍطويلة، تُسلّي آحادها بالصلاة ِوأحاديث ِالتحيّات القصيرة، تتفّقد العابرين فى نزهتها الصباحيّة وتقرعُ كلّ يوم ٍجرس صديقتها التسعينية المُقعَدة التى لا تفتحُ لأحد، فتضع أذنيها على الباب الخشبي لتصغي إلى صوت التلفاز عالياً وتطمئن بأن صديقتها لم تمت بعد، لا تزال على قيد الحياة.

فلسطين، أوسلو
asma.writer@gmail.com

1 التعليقات:

Asma يقول...

هذا مقالي .. نشر في مجلة فلسطين الشباب. لكن الصورة ليست صورتي!

أسماء شاكر

إرسال تعليق

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...