المشعل الذي تعطّل نصف قـــــــرن
بقلم: بلكبير بومدين
هذا الوضع الستاتيكي أرجع ذاكرتي إلى مساهمات كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، واختلاف مفهوم التغيير بينهما، فكان الأفغاني ينظر إلى منطلق التغيير من باب من يحكم آنذاك وهو المستعمر، أي التغيير السياسي. أما الشيخ محمد عبده، فكان يشك في جدوى التغيير بمفهومه السياسي، وهو ما جعله يؤمن بالتغيير على مستوى أفراد المجتمع، أي المحكومين .
نصف قرن يمضي بينما لا نزال نسمع أصوات تتعالى من هنا وهناك، واحدة ترمي الكرة في مرمى من يحكمنا، والأخرى تقذفها في اتجاه المحكومين، ما زاد في خلق جو من الحيرة وعدم اليقين، وهذا ما يدفعنا في البداية إلى محاولة تفكيك هذا الالتباس من خلال تحليل ملامح الأقلية الحاكمة وسمات الأغلبية المحكومة، خاصة وهناك من يغرد خارج سرب الدروس المستفادة من الإخفاق، ويختصر لحظة التقييم والتقويم بمجرد احتفالات فلكلورية وفنتازية ولقاءات روتينية وبروتوكولية متكررة. إن الاختفاء خلف أمجاد وبطولات الشهداء والمجاهدين الصادقين (الذين تحمّلوا مسؤولياتهم في زمانهم) لا يعني التهرب والتملص من مسؤولية المأزق والأزمة الراهنة في الجزائر. أسوأ ما يصيب الأمم والدول هو طمس الحقائق وتزييف التجارب والكذب على الناس في وضح النهار، إن أغلب الأمم والدول التي نهضت من كبوتها وتقدمت من تخلفها اعتمدت على المصارحة والمكاشفة وكانت صادقة مع تجربتها التنموية. أتذكر لما كنت في إحدى المكتبات المشهورة بكوالالمبور لفت انتباهي كتاب بعنوان ''المعضلة المالايوية''، كتبه محمد مهاتير ينتقد فيه بحدة ودون مجاملة سلوكيات وطباع وأوضاع المواطنين الذين يحملون نفس أصوله، والتي قد تعوق ارتقائهم إلى مستوى التغيير الذي تصبو إليه الحكومة الرشيدة، مما يساهم في تعطيل التنمية في البلد. كما قام اليابانيون دون مواربة أو خيانة ذاتية بدراسة عوامل إخفاق تجربة التحديث في عهد ميجي، حيث تبين لهم أن أسباب الاحتلال الأمريكي لليابان تكمن في أن تجربة الإصلاح والتحديث كانت في خدمة الجيش، مما عسكر الحياة وجعل اليابان يرتكب المجازر ويعتدي على أراضي جيرانه الصينيين والكوريين، وانطلاقا من ذلك وضع اليابانيون تلك التجربة باستمرار (وإلى يومنا هذا) في ميزان النقد الصارم، فاستفادوا من أخطائهم وكتب للتجربة الإصلاحية الثانية النجاح لأنها كانت أساسا في خدمة المجتمع. فبعد مسيرة نصف قرن من الاستقلال لازال النص التاريخي يساير ويمالق وغارق في ثنائية التقديس أو التخوين، لم ننتج بعد نصا موضوعيا متعددا ومتنوعا، متى ننظر إلى تاريخنا بتجرد وموضوعية أكثر من أن نراه بمنظار أنانياتنا الضيقة وجهويتنا المقيتة وتحالفاتنا السياسية. متى نرفع ستار التغني بالشعارات عن مرحلة ما بعد الاستقلال، ومتى نحرر نظرتنا تلك من أسر الانطباعات الشخصية الغارقة في الذاتية كي نبدأ مرحلة جديدة مبنية على تقييم علمي وموضوعي ونقد احترافي معمّق بعيد عن تصفية الحسابات، متى تتخلص حكوماتنا المتعاقبة من تلك الممارسة الفردانية التي لا تحتكم إلى منطق الأشياء وجثمت على تاريخ الجزائر منذ ما ينوف عن خمسين سنة؟
نصف قرن من احتكار الأقلية الحاكمة للسلطة والثروات الريعية، والتضييق على الحريات، وخنق مساحات الرأي والتفكير الحر والإبداع، وسيادة الأحادية والخطاب الشعبوي والقبلية، والإقصاء والتعسف والتصلب البيروقراطي، وفقدان الثقة والمصداقية في مؤسسات الدولة، وتدهور سلم قيم المجتمع. خمسون سنة مضت ولازالت الطبقة الحاكمة التي بلغت من الكبر عتيّا تقوم بعمليات تجميلية علها تخفي وهنها وعجزها المكشوف، في الوقت الذي تخشى أن تضع مسيرتها وحصيلتها في الحكم أمام مرآة الحقيقة، هذا الرهاب لازم كل الحكومات المتعاقبة وجل الرؤساء الذين اختارهم النظام في الجزائر. الخوف المرضي من مجهر التقييم يرهن مستقبل التنمية في الجزائر، ويعطل كل إمكانية اختبار وامتحان التجارب على مدار نصف قرن مضى (أو أكثر) للتعلم من الأخطاء والاستفادة من الفشل في النهوض والانطلاق في تجربة التحديث .
---------------------------------------------------------------------------------
وجـــــــوه :أحمد بن بلة 1918-2012 أول رئيس منتخب للجزائر المستقلة
كان أحمد بن بلة، أول رئيس منتخب في الجزائر المستقلة، وهو من أكثر الوجوه الثورية الملتبسة على أجيال الاستقلال· من مواليد 25 ديسمبر 1918 بمدينة مغنية، برز كوجه نضالي في الحركة الوطنية في النصف الثاني من الأربعينيات، ذاع صيته كبطل بعد قيامه، إلى جانب أيت أحمد، بعملية السطو على بريد وهران سنة ,1949 ألقي عليه القبض في ماي 1950 بالعاصمة، حكم عليه بسبع سنوات سجنا بتهمة المساس بأمن الدولة، لكنه تمكن من الفرار سنة 1952 رفقة علي محساس، ليلتحق بالقاهرة ويواصل نضاله، اعتقل مجددا في 22 أكتوبر 1956 بعد عملية الاختطاف التي تعرّض لها على متن طائرة الخطوط الجوية المغربية ''أطلس'' من قبل الجيش الفرنسي· بن بلة عضو المجلس الوطني للثورة 1956 / ,1962 وأول رئيس منتخب للجمهورية الجزائرية الديمقراطية، عزل في العام 1965 عن طريق ما عرف بـ ''التصحيح الثوري''، من طرف مجلس الثورة وعلى يد رئيس وزير دفاعه هواري بومدين، وتعرّض للسجن منذ ذلك الوقت إلى أن أطلق سراحه الشاذلي بن جديد مباشرة بعد توليه الرئاسة، توفي الرئيس بن بلة الذي عانى من السجن والمنفى على مدى حقب طويلة، في أفريل الماضي، وكانت جنازته تليق بماضيه الثوري، لكنها تجدد الأسئلة في النفوس حول تناقضات التعامل مع هذا الرجل ·


14:03
Unknown
Posted in:
0 التعليقات:
إرسال تعليق